قواعد الاضطراب في مناهج الافتاء المعاصرة

Abstract

الحمد لله وكفى والسلام على عباده الذين اصطفى. ثم أما بعد: فلا يخفى أن الفتوى منصب عظيم الأثر بعيد الخطر. وكيف لا والمتصدي للفتيا قائم مقام النبي في تبليغ الأحكام وتعليم الأنام كما قال الشاطبي. وقد ألّف ابن القيم كتابه الفذ في بابه، سماه إعلام الموقعين عن رب العالمين، خصص جزءا كبيرا من مباحث هذا الكتاب للحديث عن الفتيا، مقامها ومنصبها وآدابها وضوابطها وشروط من يتصدى لها. حيث جعل المفتي موقّعا عن رب العالمين وناطقا بشرعه ومفصحا عن أمره ونهيه. ولعظم هذا المقام فقد كان يتهيب منه الأئمة الأعلام من السلف الكرام ويجدون مرارته في نفوسهم وقلوبهم. رغم أنهم كانوا لذلك أهلا. فهم خزائن العلم وأوعية التقوى ومعادن الورع. لكن مع هذا كان تهيبهم من التصدي للفتيا عظيما. فكانوا يتدافعون الفتيا بينهم ويذمون من يسارع إليها. وقد ورد في ذلك الآثار الكثيرة التي روى جملة نافعة منها ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. منها ما رواه عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: " (أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أراه قال: في المسجد - فما كان منهم محدث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث ولا مفتي إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا)." وبسنده عن أبي المنهال قال: (سألت زيد بن أرقم والبراء بن عازب عن الصرف فجعلا كلما سألت أحدهما قال: سل الآخر، فإنه خير مني وأعلم مني وذكر الحديث في الصرف). لكن كما قال ابن مسعود:" لا يأتي عل الناس زمان إلا والذي بعده شر منه." حيث تصدى للفتيا من ليس من أهلها وتجاسر على سورها من ليس أهلا لها. وأصبحت الفتيا أسهل من شرب الماء ووظيفة لمن لا يجد وظيفة وراتبا لمن لا يملك راتبا. فانتشرت الفضائيات وراجت سوق الفتوى ودخل فيها من يحسن ومن لا يحسن. وتسارع الناس إلى الفتيا حتى أصبح لكل قناة ومجلة وجريدة وموقع مفتيا خاصا، حتى تلك القنوات الفضائية والمجلات التي تنشر الخلاعة والفجور. والأوفر حظا باستقطاب الفضائيات أولئك الذين يقدمون تنازلات تماشيا مع روح العصر أو بالأحرى هوى العصر ومصلحة القناة ومستقبلها الإعلامي.